✍ الصادق عبدالله _ جيبوتي
وردت عبارة في صفحة أحد الأصدقاء الشباب تقول (العار كل العار لبيوت العجزة وكبار السن في السودان). بعثت العبارة الرغبة عندي للكتابة عن الموضوع الهام ، الذي لا يجد كثير عناية. لا بد أن هذا الشاب يمثل الوجدان السوداني الذي يرى أن الرعاية كل الرعاية للكبار ينبغي أن تكون بواسطة الأبناء والأقرباء في بيت الأسرة، وليست في بيوت العجزة وكبار السن . وهو لعمري على حق . أضيف كل التقصير في الحقوق العامة والخاصة عار ، إن كان في حق الطفل ، أوالزوجة ، بل التقصير في حق الجار . لا شك أن قمة العار هو التقصير في حق الأبوين كبار السن .
لعمري تأتي رعاية كبار السن على قمة أولويات الخدمة الإنسانية وعلى قمة أولويات العبادة والتعبد ، ذات الأجر الوفير ، لمن يبتغي الأجر . بل أنّ مفردة الجهاد تعني رعاية كبار السن قبل أنواع الجهاد الأخرى القتالية وغير القتالية. ومعلوم قصة من وجهه رسول الله صلى عليه وسلم، بأن يجاهد في خدمة أبويه. وإذا كان الحديث الذي يضع خدمة الأخ لأخيه بأنها تعدل أكثر من الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم، فكم يا ترى تعدل خدمة الأم كبيرة السن والأب كبير السن ؟
تقول علوم وتجارب السياسات أن التحديات تتم مقابلتها بالدراسة والتخطيط ومن ثم إبتكار الحلول العملية وتنفذ في شكل خطط وبرامج . ولعمري هذا المنهج ينطبق على مسألة كبار السن وعلى غيرها من التحديات على مستوى الأسرة ، الحي ، القرية ، المدينة ، الولاية بل القطر كله . بحسبان أن هذه الوحدات التي تتكامل أدوارها لتعطي كبير السن الرعاية والعناية الكافية والراقية .
ولتقديم العناية لكبير السن لا بد أن نحدد وصفه ومكانه و إحتياجه . كما نحدد نوع وطبيعة الخدمات التي يحتاجه ، ونحدد القدرات والمهارات اللازمة لتقديم الخدمة للكبار ، وللإجابة على كل هذا يجب أن ننشئ السياسة العامة لرعاية كبار السن كطريقة مثلى لرعايتهم ، بل نحدد منها ما يلي الأسرة ، وما يلي المجتمع ، ومنها ما يتم تناوله (بغير تعتعة ولا مماطلة) من منافذ الخدمة الحكومية .
إحتياجات كبار السن تختلف كماً ونوعاً ووقتاً عن غيرها ، وهي تتمثل في النظافة الشخصية ، والطعام والشراب والمأوى والعلاج . بل تتجاوز إلى حد الإمتاع والمؤانسة والإدماج المجتمعي .
وللدول المتقدمة تجارب متقدمة أيضاً ، كثير منها لا يحتاج إلى المال بقدر ما يحتاج إلى الوعي والرغبة والتخطيط الواعي والتشجيع والتحفيز . وذلك عبر سياسة متكاملة من أعلى الهرم إلى أدناه و بالعكس . فمثلاً في كندا ، يوجد هناك كبار سن بما يتجاوز أعداد كبار السن لدينا أضعافاً . و كما توجد رعاية صحية أسرية ، توجد كذلك بيوت عجزة للرعاية خارج الأسرة ، لكن السياسة العامة تعطي أولوية قصوى لرعاية الكبار داخل بيت الأسرة الدافئ . ولقد ورد في كلمة تقديم المرشد لخدمة الكبار لمدينة تورنتو والذي يبلغ المائة وعشرين صفحة ( الغرض من هذا المرشد هو تقديم معلومات نفيسة لكبار السن ولمن يرعاهم ، هذا لتساعدهم للحياة بإستقلالية للبقاء في أماكن سكنهم ) . وتشمل معلومات المرشد كافة الإحتياجات ومعها عناوين الجهات المقدمة لها ، بل و أرقام تلفونات ( راجع في الشبكة العنكبوتية Services for Seniors in Toront ) .
فهناك بدءاً برنامج لتدريب الأشخاص من الأسر الذين يرعون الكبار ، يدرسونهم أ.. ب.. ت ..ث. من هو كبير السن.. وما هي حقوقه و إحتياجاته ورغباته ومزاجه (علم نفس كبير السن) وأوجاعه وأوقات سعده ، و كيف يختلف عن الأقوياء في طعامه ونومه وصحوه ، وكم يحتاج من الشمس ومن الماء الدافىء . حتى يصلون إلى أغراضه الشخصية من حمامه وحلاقة شعره و تقليم أظافره وسريره وكرسيه الثابت أو المتحرك ، ومتعلقاته الأخرى . وكيف تختلف إحتياجات المرأة كبيرة السن عن إحتياجات الرجل كبير السن.
وفي المرشد يتم مناقشة التجارب ، حلوها ومرّها . ثم يُزود الدارس بمرشد كامل ، يشتمل على الأنشطة الدورية ، مثل مواقيت تغيير الملابس ، قص الأظافر ، الحلاقة ، التعرض للشمس ، وتغيير ملحقات الغرفة والفرش ونظافتها بل وتطهيرها حتى من القمل والفطريات التي يمكن أن تصيبها . ثم يمتد المرشد ليشمل زمن وطريقة أنسه وترفيهه ، وجدولة نوع وأوقات تناول وجباته . برعاية أبن أو بنت من ذريته يتم تدريبه للغرض . بل وتوظيف شخص لخدمته .
ولا يترك الأمر كذلك ، بل يفتح سجل لكل من بلغ الكبر ، ويؤسس برنامج على مستوى البلدة أو المدينة لرعاية كبار السن . ويكون البرنامج داعماً ومكملاً لبرنامج الرعاية الأسرية . ويشمل البرنامج إعداد الخطط وبرامج التدريب والتأهيل لمن يقوم بالرعاية . ثم حساب الإحتياجات المادية والبشرية لفئة كبارالسن ، بما يشمل الكشف الطبي الدوري ، وبرنامج لتنظيم الترفية وإقامة ليالي أو أيام إجتماعية ، وغير ذلك . بل ويشمل البرنامج نشاط للتواصل مع كبار السن والتحدث معهم تلفونياً للتأكد من صحتهم و إستفسارهم عن حالتهم ورغباتهم عن أشياء قد لا يبدونها لأفراد الأسرة ، ولا يقبل الرد على التلفون من أي شخص آخر من أفراد الأسرة ، ليتم الحديث إليه مباشرة ، إلا أن يكون نائماً أو مريضاً فيهرع إليه .
ومثل هذه التجارب لا شك نحتاجها لتأسيس برامج على وعي وبصيرة ، تؤهل المجتمع للقيام بدوره وتستكمل مؤسسات المجتمع البرنامج حتى مستوي الحكم .
لم تعد لعمري خدمة كبار السن بالطرائق التقليدية لدينا مؤهلة ، في وقت تغيرت فيه الحياة ، وظهرت علوم ومعارف والتجارب الإنسانية أصبحت متاحة للإنتقاء من أحسنها . وما زال الذي يريد أن يذكرنا بأهمية رعاية كبار السن يقف يكرر التوجيه الراقي منه صلى الله عليه وسلم (ففيهما جاهد) ، ولم تتجاوز تجربتنا أن ننهض وننشيء أدواتنا ومؤسساتنا وعلومنا التطبيقية وفي غيابها لا شك ستظهر لدينا بيوت كبار السن والعجزة بحسن نية وطوية ، لكنها لن تسد مسد دفء الأسرة .
تعليقات
إرسال تعليق